ياريتني كنت أنا! ياريت جاتلي الفرصة دي، بس معلش هما السابقون ونحن اللاحقون، أكيد هييجي الدور عليا ويستدعوني عشان أحضر ندوة من الندوات اللي زي دي…..
أنا و “أيوب” مكناش بنتفارق، حقيقي دماغنا وروحنا واحدة، حتى تخصصنا نادر، وانا وهو تحدينا الدنيا وقررنا نتخصص فيه ودي أقوى رابطة ممكنة ، تحقيق المستحيل…
.
لما جت ل”أيوب” دعوة لحضور ندوة علمية في ميتشيجان، أمريكا، فرحتله، حقيقي فرحت من قلبي برغم أن كان في جوايا حته تتمنى لو كنت مكانه أو حتى رحت معاه، إنما حبي ليه نساني الإحساس ده، ده غير إني متأكد أن هييجي عليا الدور ، ببساطة لأن أبحاثنا شبه بعض، في مجالات قريبة وفي أبحاث كتير بنشترك فيها مع بعض زي “عمل الخلية على المستوى الجزيئي” ومواضيع شبهها بالنسبة لأغلب الناس معقدة جدًا ومش مفهومة….
“أيوب” كان متحمس وكان بيكلمني أو يبعتلي كل شوية يحكيلي كل حاجة بتحصل له…
المنظمين للندوة بعتوله مصاريف السفر والإقامة وخيروه ينزل في أي فندق حبه، حتى الأغلى والأفخم، لكن “أيوب” كان ليه رأي تاني….قصة شبح الميتم
الفنادق الفخمة بتبقى شبه بعض، يعني مثلًا لو في سلسلة فنادق معينة منتشرة في دول كتير، لو دخلت واحد منها ف أي بلد مش هتلاقي إختلافات كبيرة أوي، إنما لو عايز تستمع بجد تنزل في مكان ليه طبع البلد بتاعته وثقافتها خصوصًا لو الوقت اللي هتقعده محدد، زي في حالة “أيوب” اللي كان هيقعد ليلتين بس، طبعًا إحنا عمرنا ما نزلنا في فندق غالي لكن أهو.. دي كانت وجهة نظره، حب ينزل في مكان بيعبر عن أمريكا الشعبية مش المرفهة…
وعشان يزود ليفل المغامرة، محجزش أو تواصل أو حتى شاف أي فندق أو موتيل قبل ما يوصل! هو قرر لما يبقى يروح يبقى يسأل أو يلف لحد ما يلاقي المكان اللي يعجبه ويقيم فيه، كده كده أول ليلة هيبقى حر ، الندوة اليوم اللي بعد الوصول…..
وعشان ميجازفش أنه يتأخر عن معاد الندوة قال إنه هيدور في المناطق اللي حوالين موقعها…
بلغته الإنجليزية المكسرة قال للسواق اللي بعتوه ياخده من المطار اللي هو عايزه، أنه يلف في الشوارع اللي قريبة من مكان الندوة لحد ما يلاقي الأوتيل اللي يعجبه ويبات فيه….
وطبعًا كلمني في كل مرحلة يحكيلي عن المستجدات….
“أيوب” كان منبهر، راسه هتتلوح من كتر ما بيبص حواليه، الشوارع العريضة وناطحات السحاب والزحمة اللي مكانتش مزعجة عشان المساحات شاسعة ، والنظام وأشكال الناس المختلفة عننا، لكن اللي شده أكتر هي الشوارع الهادية ، اللي فيها نظام البيوت مش العمارات، بيت بجنينة بينه وبين البيوت التانية مسافات، وعدد الناس قليل جدًا ، اللي ظاهرين في الشارع على ا
“أيوب” محتاجش وقت كبير عشان يقرر، هو عارف أنه هيبات في واحد من الأحياء الهادية دي، اللي فيها الحياة بطيئة وبسيطة كأننا في زمن فات، من غير جري ولا سرعة ولا تكنولوجيا رهيبة ولا إعلانات على مباني ولا أضواء….
لكن المشكلة أنه ملاقاش أي موتيل وميقدرش يبعد كتير عن الموقع المحدد، كل اللي كان موجود البيوت اللي من دورين، السواق بدأ يبان عليه الضيق، وف مرحلة ما وقف بالعربية وقعد يتناقش مع “أيوب” عشان يشوفوا الحلول البديلة، الشمس كان بدأ نورها يبهت وتغيب ، وده مكانش ينفع، أصل مفيش دولة زي مصر، ليلها نهارها، هنا لازم كل واحد يرجع لبيته قبل ما الليل ييجي
“ايوب” تلقائيًا بص تاني للبيت، كان عاجبه جدًا ميقدرش ينكر، بس كان مستغرب إهمال صاحبه ليه، ليه مش مهتم بالجنينة والمبنى، وبعدين زي ما كان مهمله من بره يبقى اكيد مفيش صيانة من جوه…
-البيت ده أنتيكا، والأنتيكات مجرد تلميعها بيبوظ بريقها..
زي ما يكون كان سامع اللي بيدور جواه، وبيرد على الاسئلة بتاعته من قبل ما يسألها…
=تمام بس…
-البيت معمول له صيانة، الحمام شغال والمطبخ في بوتجاز، ده غير أن البيت كله متنضف بكل الأوض، وتقدر تنام في الأوضة اللي تحبها، وتقدر تطبخ أو تطلب ديلفري، وفي ماركت على بعد محطتين بس، تقدر تمشيله وتجيب الطلبات اللي أنت عايزها.
التحمس بان في وش “أيوب” ولهفته على البيت “الأنتيكا” بعكس سواق العربية اللي معلقش ووشه مكنش عليه نفس التحمس…
“أيوب” سأل السواق :
=إيه رأيك؟
فاكر نفسه في مصر! عادي يقدر يتصاحب وياخد على الناس من غير ما يكون عارفهم كويس وياخد رأيهم ويردوا عليه…
السواق طبعًا استغرب من جرأة “أيوب” أنه يسأله في مسألة خاصة بيه ومع ذلك جاوب عليه بعد لحظات و بلسان تقيل:
-البيوت دي بيبقى ليها طبع مميز ومش شرط يكون مريح بالنسبة لنا.
“أيوب” بص للراجل تاني وسأله عن تكلفة الإيجار لليلتين عشان يتفاجأ أن التكلفة رخيصة جدًا! يعني الراجل ده لو معتمد في عيشته على الإيجار بس اللي بيطلع من البيت يبقى إزاي عايش وبيصرف منين؟؟
وبرغم استغرابه وتعليق السواق إلا انه قرر يمشي ورا إحساسه ويقبل بالبيت….
صاحب البيت كان باين عليه الرضا بشكل غريب، مع أن الفلوس اللي خدها قليلة جدًا….
الاتنين دخلوا عشان صاحب البيت يفرجه البيت كله، فعلًا كان نضيف ومنظم أوي برغم أن العفش كان عتيق والتليفزيون ستايله قديم وكل حاجة تانية…
-لو محتاج أي حاجة تقدر تكلمني، بس قبل الساعة 10 بليل!
“ايوب” إستغرب من تحديده للمعاد بس قال أكيد ده المعاد اللي بينام فيه، الناس هناك بتنام من أول الليل وبتصحى بدري، ده الطبيعي يعني.
أول ما الراجل مشي “أيوب” افتكر حاجة، أنه مطلبش منه أي أوراق تثبت هويته! مسألوش حتى عن إسمه! إزاي مش فارق معاه كده خصوصًا أنه أجنبي، مش خايف أنه يسرق حاجة أو يخرب البيت أو يعمل مصيبة؟؟
للحظة “ايوب” اترعب منه، وجه ف باله خاطر، أن الراجل مجرم أو ناويله على مصيبة، يكون مثلًا قاتل متسلسل زي الحوادث المنتشرة اللي بنسمع عنها عندهم أو الأفلام اللي بيعملوها!
الأكيد أنه اتسرع في اختياره، بس برده دلوقتي بقى مستحيل يخرج يدور على مكان تاني، الدنيا ضلمت وميعرفش حد هنا ولا دارس المكان ولا في مواصلات على أول الشارع!!!
اللي جه ف باله أنه يسد البابين كويس، الباب اللي قدام والباب الخلفي، لقى طربيزة وكرسي ضخم، الطربيزة حطها وره الباب الرئيسي والكرسي وره الباب الخلفي، على الأقل كده لو حد يحاول يفتح أو يكسر الباب هيسمع وممكن يلحق يتصرف…
ده مش السيناريو اللي كان في باله تمامًا! متخيلش أنه هيبقى متوتر كده في أول ليلة ليه…
بس التوتر منساهوش الجوع، بطنه كان ليها رأي تاني، أكيد هو مش هيطبخ ومجابش أساسًا أكل يطبخه… دور على المحلات اللي نسبيًا قريبة من الشارع بتاعه ولقى رقم تليفون محل بيتزا…
كانت المكالمةعادية، ماشية طبيعي لحد ما اتسأل عن العنوان اللي عايز الأكل يوصل عليه….
الراجل سكت شوية، صمت مريب!
-أنت متأكد أنك في البيت ده؟!
ده رد اللي بياخد الطلب بعد سكوته…
=أيوه متأكد في مشكلة؟؟
-لا أكيد مفيش مشكلة، الطلب هيوصلك بعد تلت ساعة بالكتير!
غريبة! رد فعله غريب جدًا، “أيوب” مكنش مستوعب إيه سبب التوتر ده، هل لأن الراجل قدر يميز أنه أجنبي بسبب اللكنة، طب ليه مكانش ده من أول المكالمة، إشمعنى لما قال العنوان؟
مش مشكلة، “أيوب” أقنع نفسه أن لو كان في مشكلة حقيقية مكانوش رضيوا يوصلوا الطلب للعنوان، كانوا أكيد اعتذروا….
بعد 22 دقيقة بالظبط “أيوب” لقى تليفون البيت بيرن، كان الراجل اللي بيوصل الديلفري…
كان متحمس جدًا أنه وصل، أخيرًا هياكل، لحد لما طلب منه حاجة غريبة، أنه يخرج ويمشيله لحد آخر الشارع عشان ياخد الأكل!
“أيوب” حاول يفهم منه ويتفاوض معاه لكنه أصر أنه مش هيقرب من البيت ومرضاش يدي تفسير للطلب…
مكنش قدامه غير أنه يستجيب، كان هيموت من الجوع ومش هيطلب من مكان تاني، لازم ياكل ويحاول ينام عشان اليوم اللي بعده المفروض يكون فايق ومركز….
الديلفري بوي كان شكله متوتر ومستعجل جدًا لدرجة أنه مستناش ياخد إكرامية، قال أنه مش عايزها! ومكنش راضي يبص لأيوب….
أول حاجة لاحظها لما دخل البيت السقعة الفظيعة، يكون نظام التدفئة في البيت اتعطل؟ والبرد دخل لما فتح الباب وخرج؟ بس أصلًا الجو بره مش برد! وافتكر أن نظام التدفئة مش شغال من الأول أصلًا لأن مفيش داعي… اشمعنى البيت اللي برد كده؟ وليه فجأة؟؟
الساعة كانت 9، قال يلحق يكلم صاحب البيت يسأله ، لسه مجاش المعاد اللي قال عليه، المفروض يرد…
لكنه مردش، مرة واتنين لحد ما الخط فصل… “أيوب” اتأكد أنه مش هيرد مهما اتكلم فملوش لزوم يحاول تاني…
قال أنه كان لازم يتعايش، لبس جاكيت على هدومه وبدأ ياكل …
“أيوب” نسي كل المغامرات السخيفة اللي حصلت ليه من ساعة ما جه، اندمج في الأكل والفرجة على التليفزيون، وافتكر الندوة اللي رايحها اليوم اللي بعده وإزاي ده إنجاز رهيب والمفروض يكون مبسوط….
خبطات سريعة ورا بعض، مفيش مساحة ما بين الخبطة والتانية …
وطى التليفزيون وقام ببطء وهو مخضوض، قرب بحذر من الباب والخبطات مكملة بنفس النمط…
-أنا عا…يزه أد…خل….
صوت طفل أو طفلة، نبرة فيها رعشة…
=مين؟
-عايزه أدخل!
=أنت مين؟
-أنا ندمانه، أنا آسفة، مش هعمل كده تاني، هموت من البرد….
فضل واقف ورا الباب ، مش متجرأ يفتحه….في إحساس جواه أنه المفروض يساعده ويدخله، ببساطة ده طفل بردان وبيقول له دخلني، وفعلًا هو نفسه حاسس ببرد جوه البيت، بس الموضوع مش بالبساطة دي! مش طبيعي أبدًا طفل يظهر من اللا شيء ويبقى بردان ويخبط على الناس في الساعة دي ويطلب يدخل بيتهم، فين أهله وليه سايبينه؟!
الصوت هدي، مبقاش في خبط…
“أيوب” لف عشان يرجع تاني ، بس فجأة الخبط رجع وبشكل هستيري! الطفل بقى يخبط بإيده الاتنين وبدأ يصرخ:
-هموت، هموت، دخلني، هموت من البرد، بقول لك دخلني دلوقتي!
كان مرعوب، جسمه كله كان بيترعش وبرغم ده ومن ضمن الرعب أنه كان فعلًا برده خايف على الولد، كان ذعره وصوته صادق جدًا كأنه فعلًا خايف وبردان ومحتاج ملجأ….
“أيوب” طلع بسرعة للدور التاني ، دخل أوضة وفتح الشباك، لقى بنت صغيرة، لابسه لبس خفيف ومقطع وستايله قديم أوي، مفيش حد حواليها، ومش بتبص غير للباب، إستنى شوية يمكن تبص لأي اتجاه أو تعمل أي إشارة ، لكن ده محصلش، يعني مفيش حد معاها، هي فعلًا لوحدها ومحدش خلاها تعمل دور، هي فعلًا محتاجة تدخل….
نزل بسرعة بعد ما اتأكد، هيدخلها ويدفيها ويحاول يفهم قصتها، فتح الباب بس ملقهاش….
لحقت تمشي؟ راحت فين؟ معقول فقدت الأمل فقالت مفيش فايده، بس هو كان لسه شايفها من لحظات، تكون لحقت تبعد؟؟
مسك الموبايل وولع الفلاش عشان النور في الشارع كان خفيف جدًا، مشي وهو بينده:
رجع البيت تاني بعد ما فقد الأمل…. وقتها تقريبًا بقى مستحيل ينام، شوية النوم اللي في عنيه راحوا ومبقاش مرتاح….
كلم النجدة، قال لهم في بنت في العنوان الفلاني شكلها متشردة وملهاش مأوى وخبطت عليه، سألوه عن مكانها في الوقت اللي بيتكلم فيه قال إنه معندوش فكرة…. قالوا إنهم هيحاولوا يتصرفوا واتقفلت المكالمة على كده…
أهو كده عمل اللي يقدر عليه بالمتاح ليه، كان نفسه أوي يلاقوها ويوفرولها مأوى ومكان تبات وتتدفى فيه، وهو بقى المفروض يشوف نفسه، الوقت بدأ يتأخر ولازم كان يحاول يرتاح بقى لولا أنه لمح بطرف عنيه حاجة….
الكرسي الهزاز بيتحرك!
حتى لو في برد، حتى لو في هوا مش هيحركه بالشكل ده، لازم يكون بفعل فاعل!
في حد كان هنا دلوقتي حالًا! عدى وخبط في الكرسي عشان يتهز بالمنظر ده!
بس لما “أيوب” ركز لقى أن حركة الكرسي ثابتة ومستمرة، مفيش حد عدى وهزه، في حد قاعد عليه!
المشكلة أنه مكانش شايف حد والكرسي لسه بيتهز…
-بردااااااانة!
اتلفت للمطبخ لقاها واقفة، البنت اللي كانت بتخبط عالباب من شوية، دخلت إمتى وإزاي؟
كان أول مرة يلاحظ، البنت شكلها من سكان أمريكا الأصليين، الهنود الحمر، وشها أزرق، زي ما يكون الدم مسحوب من جسمها، كل ما يقرب خطوة منها الدنيا تبقى ساقعة أكتر، برودة مش محتملة! لما بقى قريب أوي منها لقى أن بوقها بيطلع دخان بارد، كأنها بره البيت!
مقدرش يقلع الجاكيت اللي عليه عشان كان متجمد مالبرد، قال لها تستناه دقايق، لف واستعد يطلع فوق عشان يجيب غطا يلفها بيه، بس غير رأيه….عشان أول ما اداها ضهره مبقاش حاسس بوجودها، وفعلًا لما رجع بصلها مكانتش موجودة!
ابتدا يفكر جديًا يخرج بره البيت، يقعد قدامه، يتمشى، يقضى الوقت عبال ما الصبح ييجي، على الأقل بره في الشارع الجو ادفى ، غير أنه بقى متأكد أن البيت ده وراه قصة، وعشان كده صاحب البيت أجره ليه بسعر قليل جدًا ومستناش يعرف هو مين….
كان متوقع انها تكون الشرطة مثلًا بس لقى واحدة ست كبيرة لبسه هدوم غريبة، مش يونيفورم الشرطة وبرده مش لبس مدني عادي….
كانت لابسه فستان ستايله قديم أوي من الأربعينات مثلًا او يمكن قبل كده كمان….
-سبب الزيارة؟
=أنت بلغت عن بنت كانت بتخبط عليك لوحدها…
وقتها اتأكد أن الست دي تبع النجدة، يمكن تكون من جهة الرعاية الاجتماعية مثلًا
=ايوه فعلًا.
-تسمحلي أدخل؟
=أنتوا بتدوروا على البنت؟
-عايزه أعرف منك تفاصيل….تسمحلي أدخل؟
ابتسمت ليه ، كانت بتحاول تطمنه. مقدرش ميدخلهاش بعد كده، فتح الباب وسمحلها تدخل…
“يتبع”
“مستوحاة من قصص حقيقية”
“الجزء الثاني والأخير”
جز على سنانه وطلع صوت خفيف من بوقه. شرحلها وهو بيعتذر:
=آسف، معرفش الجو بيبرد اكتر ليه كل شوية، مبقتش مستحمل..
استسمحها يقعدوا في المطبخ عشان يعملها ويعمل لنفسه أي حاجة سخنة يشربوها. مكانش عامل حسابه طبعًا ولا لحق يجيب حاجة ، دور في الدواليب لحد ما لقى بودرة شوكولاته. عزم عليها ووافقت تشرب معاه….كانت ودودة بس هادية بشكل مبالغ فيه.
-إيه ده؟
سألته عن الboiler. استغرب لسؤالها وأنها متعرفوش جاوبها أنه الآلة اللي بيغلوا فيها الميه عشان المشروبات.
-إحكيلي عن البنت.
=أنا لقيتها بتخبط على الباب خبطات ورا بعض بهستيريا، كانت بردانة جدًا وعايزه تدخل.
-شكلها إيه؟
=من السكان الأصليين… بس أنا شفتها تاني، دخلت البيت ودلوقتي مش لاقيها في أي مكان.
الست ملامحها اتغيرت، كأنها اتضايقت من حاجة قالها…
-السكان الأصليين؟ قصدك الهنود الحمر..
استغرب جدالها، نقطة تافهة تقف عندها، ده غير أن شكلها منتبهتش ولا هامها اللي قاله بعد كده، إن البنت ظهرت تاني في البيت وبرده اختفت…
=مش مشكل…
قاطعته بعصبية بس بنبرة هادية في نفس الوقت:
-تفتكر مين يستحق بتقال عليه صاحب الأرض والساكن الأصلي؟ اللي قاعد من غير لازمة هو والحيوانات واحد ولا اللي بنى وطور؟
=التطور من انهي وجهة نظر ومين اللي يحكم؟
-ده هروب من السؤال!
=أبدًا… يعني التطور بالنسبة لناس ممكن يبقى في ثورة صناعية أو هندسية او تكنولوجيا دقيقة أو أبحاث علمية واكتشافات طبية مثلًا وبالنسبة لناس تانية التطور والتحضر هو في بناء علاقات اجتماعية قوية ومجتمع سوي مسالم بيحافظ على البيئة وبيقدر الطبيعة وبيحترم قدسيتها..
-كل ده جدال فارغ، مفيش غير فصيل واحد هو المتميز، هو اللي المفروض يبقى صاحب الأرض ويحكم ويكون ليه الكلمة الأعلى يأما العالم مصيره هتبقى الفوضى.
=ومين الفصيل ده؟
-الرجل الأ.بيض!
مبقاش قادر، البرد رهيب، حس أن دمه هيقف جوه عروقه، الست دي جابت معاها برد أكتر، أكتر من البنت اللي ظهرت قبلها!
قام من مكانه وهو بيترعش، فتح عين البوتاجاز وحط إيديه على مسافة فوقيها….
-البنت راحت فين؟
مش مرتاح، مبقاش مرتاح للست ولا للهجتها وطريقة كلامها، خصوصًا بعد الكلام العنصري اللي قالته، ده غير أن ابتسامتها اختفت، الابتسامة المزيفة اللي كان بتضغط على نفسها عشان ترسمها….
وهدوئها وهي بتسال زاد من توتره، هدوء مريب…
حتى لو كان عارف مكان البنت مكانش هيقولها، مش واثق فيها وف نواياها..
=معنديش فكرة.
-أنت قلت انك شوفتها في البيت.
=فعلًا، بس اختفت بعدها ، تلاقيها خرجت من البيت وبعدت، حتى مظنش هتلاقيها في الاحياء القريبة.
قامت بنفس الهدوء وقربت منه، وقفت جنبه وفضلت باصة ليه وهو مرضاش يبص لها! بس بطرف عنيه شافها بتراقبه كأنها بتحلل حاجة…
مشي لمصدر الصوت، البنت كانت متعلقة من هدومها على مسمار في حيطة المطبخ قرب السقف! وشها شاحب جدًا، بتكح جامد وبتتأوه، كان باين أنها بتتألم….
=متقلقيش هنزلك…
كانت بتقول كلام معرفش يسمعه، عشان صوتها الواطي والكحه اللي ما بين الكلمة والتانية…. جر كرسي ووقف عليه وفرد دراعه… ساعتها بس قدر يسمعها:
-إهرب!
الكرسي اتشد من تحتيه ووقع على الأرض، الارتفاع مكانش قليل وحس بوجع فظيع، ممكن يكون كسر أو على الأقل تمزق في الأربطة، بس مينفعش يرتاح، بقى متأكد أنه لازم يتحرك، لازم يخرج من هناك، الكيان أو الشيء مش هيسيبه غير لما يتأذي، مش هيخرج من البيت حي لو استنى!
حس بدوخة فظيعة وهو بيجر رجله ناحية الباب والبيت حواليه شكله اتغير كأنه مكان تاني… مكان أوسع بكتير وأقدم، سمع صريخ وعياط وناس بتزعق….”العقاب…العقاب…العقاب”…
أطفال بيستغيثوا وناس كبيرة بتزعقلهم ، كل شوية يكرروا كلمة “العقاب”، أصوات مختلفة بس نفس الكلام ونفس القسوة….
-أرضنا!
الصوت ده بالذات كان قريب منه أوي والكلمة اتوجهت ليه هو… أخيرًا وصل للباب ، مد إيده عشان يفتحه بس متفتحش… مهما حاول يفتحه مكنش بيفتح، كأن عليه قفل أو مقفول بمفتاح…. أدرك أنه مش هيقدر يخرج دلوقتي، الكيان قدر يحبسه ومش هيسيبه….
البديل كان القبو! الدور اللي بيتحط فيه الكراكيب، هو كان الأقرب ليه….
فتح باب القبو وقفله وراه بسرعة…. عتمة، مكانش في أي مصدر للنور….
حاول يقول أي آيات افتكرها، المشكلة أنه من الرعب كان بيتلخبط، مش عارف يقول أي آية صح…
سمع صوت همهمة خفيفة، حد بيغني…حد موجود معاه هناك جوه البدروم..
حس ان في حاجة بتشد ايده الاتنين، بتسحبهم وتضمهم ورا ضهره، قبضة قوية متلجة قيدته….
نور خفيف ظهر قدامه، شمعه وجنبها بدأ يظهر وش ، الست نفسها اللي اتحولت لشيطان أسود….
-دي الأغنية اللي كنت بغنيهالهم قبل ما يناموا، الأطفال اللي ربيناهم وكنا بنرعاهم، مش كلهم كانوا أيتام على فكرة، في منهم اتاخد من أهله، والغرض من تربيتهم كان نبيل، أصل دول مكانوش الجنس السامي، الأب.يض، كانوا هنود حمر غوغاء، كان الغرض إننا ندمجهم في المجتمع الأمريكي الأب.يض، عشان يبقى عندهم ثقافة راقية وتحضر….لكنهم كانوا أطفال عنديين جهلة! معرفوش يرتقوا مالقاع اللي كانوا فيه، علطول كانوا بيعملوا تصرفات مش مسؤولة وشغب، البنت كنت بدور عليها، البنت اللي جتلك واستنجدت بيك، تعرف عملت إيه؟
=أنا بر…د…ااان.
-هي برده كانت بردانه، بس هي اللي جابته لنفسها، خرجت بره البيت، بتلعب في الجنينة لوحدها، اتأخرت عن المعاد اللي المفروض ترجع فيه، فضلت لحد بليل… وباااعديين قررت تيجي، أصله بمزاجها تمشي وقت ما تمشي وترجع وقت ما ترجع، بس طبعًا ده مكانش مقبول، منعتها من الدخول، فضلت تخبط وتخبط وتعيط وتقول “مش هعمل كده تاني، أنا آسفة، بردانة، هموت من البرد، دخلوني”…. في الآخر سمحنالها تدخل، الصبح فتحنا الباب، لقيناها مرمية، وشها شاحب وبتكح وبتعطس، جالها التهاب رئوي، بس مش معنى كده إنها تفلت من العقاب….
عينه دمعت، مكانش قادر يسمع كم القسوة دي، مبقاش قادر يسمع الباقي، للحظة نسي اللي هو فيه، البرد والألم في رجله، وقبضة الإيد الخفية اللي مسكه إيديه الاتنين وره ضهره كأنها خيوط قوية بتقطع فيه…
-علقناها من هدومها في الطرقة عشان الأطفال الباقيين يشوفوها، يشوفوا عدم اتباع الأوامر بيوصل لإيه، أي حد تاني تسول ليه نفسه يخرج بره القواعد ويرجع للهمجية بتاعة قبيلته ده هيكون مصيره… حاولنا نعمل كل حاجة، ندفيها ، نغذيها، بس للأسف بعد كام يوم فقدناها، كانت ضعيفة مش زينا، مش زي الجنس الأب.يض…هممممه…
القبضة بدأت تخف من على إيديه، وش الست بقى غضبان، قربت منه، خطواتها على الأرض كانت عنيفة وتقيله أوي…
وقفت قدامه والشمعة في إيديها وقالت بنفس الغضب:
-أنتوا! الغرباء، بتيجوا تاخدوا أراضينا ووظايفنا وفلوسنا، بتسرقوا منا هويتنا مقابل اللا شيء، بتزاحمونا في النفس اللي بناخده، تخيل بتتنفسوا نفس الهوا اللي بنتنفسه، الأقل إتساوى مع الأكتر، القزم مع العملاق….
“أعوذ بالله من الشيطان الرجيم”
-قلتلك تهرب!
البنت! سمع صوتها جنبه… الست اختفت مع تكرار استعاذته بالله وبعدها سمع جملة البنت من غير ما يشوفها… أخيرًا قدر يتحرك، طلع بسرعة في الضلمة وفتح باب البدروم وبقى تاني في الصالة، قطع الإزاز مرمية حواليه ف كل حته….مكنش عارف المفروض يروح فين…من غير تفكير طلع الدور التاني ودخل أول أوضة وقفل الباب…
مدد على السرير وبدأ يقرا المعوذتين وآية الكرسي بس برده كان متلخبط….
سمع صوت الحمام اللي جوه الأوضة اللي هو فيها بيتفتح! المفروض أنه كان مغمض عينيه بس شاف كأنه مفتح…. شاف الكيان اللي طلع من الحمام، كان لابس زي عبايه أو غطى أسود مغطي جسمه كله حتى وشه، مفيش غير عينه اللي باينه، الكيان قرب لحد طرف سريره ووقف يراقبه… بعدين مبقاش شايفه ولا حاسس بوجوده….لحد ما حس بالسرير بيهبط، في حاجة بتتحرك عليه…جسم بدا يتسلل على جسمه، جسم تقيل، اتمدد في الآخر على كل جسمه، مبقاش قادر يتنفس! وصوابع اتغرزت في رجله فوق ركبته… في الآخر من الألم اغمى عليه ونام….
العصافير، صوتها وصوت حركة خفيفة في الشارع صحاه…
“أيوب” قام، لثواني كان بيحاول يجمع هو فين وإيه اللي بيحصل، وحدة وحدة افتكر، الدعوة، الندوة، البحث العلمي، وصوله أمريكا، البيت اللي أجره، اللي حصل بعد كده….
ضحك، ده أكيد، أكييد حلم، مش ممكن اللي افتكره ده يكون فعلًا حصل، عفريت إيه وهنود حمر إيه وتعذيب إيه، قال في نفسه إنه أكيد اتأثر من القصص والأفلام الأمريكاني، ده غير أنه كويس أهو، العو ماقتلوش يعني…بس رجله كانت موجوعة شوية، مش معناها حاجة برده، خليه في الهم اللي هو فيه، الندوة اللي لازم يلحقها…
هدومه كانت لسه تحت في شنطة السفر… نزل السلم مرة واحدة، فتح الشنطة في استعجال وطلع الهدوم اللي هلبسها وبدأ يغير، مكانش قلقان حد يشوفه من الشبابيك، الحي والحركة هاديين جدًا …..
اتشل مكانه لما بص لتحت وهو بيلبس بنطلونه، كان فيه آثار صوابع على رجله، كأنها كانت مغروسة ف لحمه….. بص حواليه، ركز لأول مرة من ساعة ما نزل من الأوضة، قطع الإزاز الصغيرة كانت متنتورة في كل حته، مكنش حلم!
“أيوب” طبعًا أخد شنطته وبعد الندوة مرجعش نفس المكان، راح لأفخم فندق وبات فيه، كان مُصر يبلغ عن الراجل اللي أجرله البيت، لكن الشرطة قالت أنه لازم يقدم بلاغ في القسم ويروح بنفسه مع الظباط البيت وهو رفض، مكنش عايز يرجع أو حتى يقرب تاني في حياته من البيت، ولا يروح المنطقة ولا المناطق اللي حواليها…
بعديها سأل وعمل بحث عن المكان، عرف أن كان في دار ايتام اتبنى زمان في نفس مكان البيت تم افتتاحه سنة 1915 وكان المفروض يكون للأطفال اللي لونهم أب.يض بس حصل تغيير في الخطط وبقى للهنود الحمر، ومش كل الأطفال كانوا أيتام أو مشردين، في منهم اتاخدوا من أهاليهم عشان يخلوهم “يندمجوا في المجتمع الأمريكي” بثقافتهم الجديدة، لكن اللي حصل أن المربيين كانوا قاسيين جدًا عليهم، بيعذبوهم وبيعاقبوهم بطرق بشعة ، وفي حادثة مش معروف تاريخها عن بنت من الهنود طلعت تلعب في الجنينة واتأخرت ولما رجعت مرضوش يفتحولها الباب والصبح لقوها مرمية على العتبة متجمدة مالبرد وعيانه، لكن كملوا عقابها ، علقوها في الممر عشان الأطفال التانيين يتعظوا، والبنت ماتت من الالتهاب الرئوي بعدها بكذه يوم…. المبنى اتهدم من سنين واتبنى مكانه بيت بس محدش اشتراه إلا و مشي منه أو مات في ظروف غامضة واللي مماتوش وباعوه قالوا إن حاجات غريبة كانت بتحصل وأنهم اتأذوا وأكدوا كلهم أن البيت مسكون، شبح الطفلة والمربية القاسية واشباح تانية ساكنة المكان…
“أيوب” اتغير ذوقه ومزاجه تمامًا مبقاش يحلاله غير الفنادق الخمس نجوم على الأقل، لو ده متاح يعني، مبقاش مغامر ولا بيحب يجرب حاجة مش عارفها ولا بقى يحب الهدوء….
أما أنا فالمفروض بعد ما سمعت حكايته أول حاجة أفكر فيها لما تجيلي نفس الدعوة بعدها إني أروح لأبعد مكان عن البيت المسكون… بس الحقيقة…أنا اتشديت جدًا للبيت والقصة بتاعته، مبدئيًا كده مصدقتش أي حاجة “أيوب” قالها، أكيد كانت أحلام وهلاوس ، بدليل أن هو شخصيًا كان شاكك في ده في مرحلة ما، هو تلاقيه قرا تاريخ المكان والقصص اللي الناس قالتها قبل ما ييجي بس مكانش فاكر ولما أجر البيت وبات فيه كل اللي قراه وكلام الناس والكدب اللي قالوه عمل ميكس كده في دماغه وطلع كابوس رهيب نغص عليه الليلة اللي قضاها فيه، عشان كده أنا قررت أجي بنفسي لما استدعوني في نفس التاريخ عشان أحضر نفس الندوة بعدها بسنة… وقفت قدام البيت ، استنيت صاحبه يظهر وأجرته لليلة ودخلت….
زي ما توقعت مكانش في أي حاجة، لا ظواهر خارقة ولا حد بيخبط ولا عفريت أسود ولا ست أرشانة…..لحد لما حسيت بحركة ورايا وأنا قاعد على الكنبة وبرد هب فجأة، بصيت ناحية الحركة لقيت بنت صغيرة وشها أزرق بتقول: